Sunday, April 23, 2006

ماقبل الهجرة..ومابعد الحداثة

ابن رشد : الحسن ما حسنه العقل والقبيح ما قبحه العقل... الله لايمكن ان يعطينا عقولا ويعطينا شرائع مخالفة لها

ابن خلدون : المغلوب مولع دائماً بتقليد الغالب

ما قبل الهجرة ومابعد الحداثة


أصبح وصف الحضارة الشرقية بالروحية والغيبية، أو الحضارات التي تفتقر فلسفياً إلى أية قواعد مادية، صيغة جاهزة. وأصبحت شعوب الشرق توصف بأنها جماعات من المتعصبين، العاطفيين المجرّدين من أي تفكير عقلاني أو تحليل معرفي : تغلغل ظاهرة الإسلام السلفي في ميادين الحياة اليومية من المحيط إلى الخليج تترك قليلاً من الشك. إلاّ أن التحليل العلمي يتطلب منّا سبر أغوار هذه الظاهرة والتدقيق في تكوينها وتحليل مسارها.


الحضارات – أياً كانت – في الأساس خاضعة لعاملين : الزمن والبنية الاجتماعية. وليس بالإمكان لحضارة ما الازدهار، أو حتى الاستمرار، ما لم تكن ديناميكية وتحافظ على علاقات وثيقة مع الحضارات الأخرى. في البلدان التي كانت مستعمرة، خلقت ظروف الاستعمار حالة استقطاب : جزء من المجتمع المستَعمَر تابع للقوى الاستعمارية ، وجزء آخر معاد، ولكن لا يمتلك الأساس النظري والعملي اللازم من أجل تطوير ناله المطلوب.

وكمثال على ذلك: محاولات بعض الحداثيين الليبراليين قطع أية صلة للحالة العربية المعاصرة مع الماضي ، وإقرارهم أن السبب الوحيد الذي يكمن وراء المشاكل الموجودة في العالم العربي اليوم ليس إلاّ مخلفات التراث العربي الإسلامي ، وهم بذلك يسعون إلى فرض أي مظهر من مظاهر الحياة الغربية بالقوة ( لأنها حضارة مسيطرة) وبدون إجراء تحليل معمق للعوامل الموجودة على أرض الواقع.

وتنطوي مقاربة الإسلاميين الأصوليين للمشكلة على نفس القدر من الضرر حيث يتبنون وجهة أنهم يتبنون وجهة نظر مناقضة تماماً ويدعون أن آثام الحضارة الغربية وشرورها هي التي أدت إلى أدّت إلى اندثار الإرث الإسلامي ، ولذلك يدعون إلى التخلص التام مما هو عصري أو ذي صلة بالغرب بحيث تتم المحافظة على " الماضي المجيد". تفترض كلا وجهتي النظر السابقتين سكون الثقافة وإمكان عزلها عن محيطها أو العوالم المتصلة بهذا المحيط : وهنا يكمن أساس الخلل المدمِّر لجوهر التقدم والتطور : التجريد والانغلاق.


هذه الظاهرة تجسّد الشيزوفرينيا التي تعيشها المجتمعات العربية : وهي في الأساس حصيلة انحسار العقلانية والتي تؤدي بالضرورة إلى تفشي الممارسات الطفيلية. فالإسلامي الأصولي يعيش حالة تضاد بين الرغبة في التمسك بنظام اجتماعي لا يمّت بصلة بالحاضر، ومن ناحية أخرى يُغالي في استهلاك كل ما تقدمه الحضارة الغربية من تطور علمي وتكنولوجي. وقد يعادي الليبرالي محاولة الرجوع إلى نظام اجتماعي بائد ، إلا انه يرفض فهم سر شيوع ظاهرة التدين – الواسعة أساساً ن ولا سيما بصبغتها الأصولية ، بين أوساط حاملي الشهادات العلمية وأصحاب بعض الخبرات في العمل أو الدراسة في بلدان أوروبا وأمريكا الشمالية : يكمن السرّ في حالة الضياع الوجودي : فقدان الهوية.

ولا يقل الليبرالي ضياعاً عن ذلك الإسلامي الأصولي، إذ يحاول أن يسلخ المجتمع من تراثه الفولكلوري وعناصر النمو الاجتماعي والثقافي من خلال فرض ثقافة هجينة تكرّس اللاعقلانية في حياة الفرد وتساهم في تهميش وعيه السياسي والمعرفي. لذا نتلمس شيوع برامج تلفزيونية على جميع القنوات الفضائية موّحدة في معاداة العقل والنقد البنّاء تتراوح بين الفيديوكليب الغنائي وبين برامج تتحدث باسم الدين عن تكفير هذه الجماعة أو الطائفة وتزييف التاريخ الإسلامي عن طريق اختلاق قصص وهمية لطبيعة الصراع الفكري بين الحداثة والتخلف على أساس صراع بين الإسلام والكفر. وتهتم مجمل هذه البرامج بلباس المرأة ولونه أكثر بكثير من الأميّة المتفشية بين ناطقي لغة القرآن.


تتشابه هذه البرامج في سعيها لتلقين المرء ، ولا تناقشه من خلال طرح أفكار وتحليلات تم نقدها : انحسار العقلانية ، بل تهميشها ! ولا يقتصر هذا " الخراء الثقافي" على المرئي والمسموع بل يتجلى في المطبوعات من مجلات وكتب. وفي الوقت الذي تعاني فيه المجلات الأدبية والتحليلية الرصينة من صعوبات مالية جمّة تسعى بجهود استثنائية لتجاوزها – وأحياناً تفشل، نلاحظ تفشي مجلات الورق الصقيل المفعمة بخزعبلات كتابية تدعى تجنياً قصة أو قصيدة أو عرض اجتماعي ويطغى على هذا المجموع الورقي الصقيل الصور البالغة الرتوش لمشاهير الشرق والغرب، ورسائل القراء الغارقين قي بحر التيه المفصحين عن محبتهم الجمّة لهذا الممثل أو تلك المغنية – صاحبة الجسد الفاتن.

ما هو المحتوى المعرفي لما يملأ صفحات هذه المجلات – الواسعة الانتشار من المحيط إلى الخليج والمدعومة أساساً من المؤسسات الإعلامية الخليجية والمتركزة معظمها في بيروت ودبي ؟ هل من خيار آخر واضح أمام شاب أو شابة يحاولان تفهم ما يجري حولهم من ركود ثقافي وانهيار سياسي وسقوط أخلاقي ؟