Sunday, April 23, 2006

فرويد... اللاديني

عندما تقرأ الأدبيات الإسلامية والتي تتناول مواضيع شتى تخص الفكر الإسلامي وما يواجه من تحد من قبل الفكر الغربي, لاتكاد تجد كتاباً لا ينتقد الهجمة الإمبريالية على أمتنا الإسلامية, وهذا ليس بالغريب مادامت الكتابات الإسلامية تنطلق لتعليل إخفاقات تطبيق الشريعة بنظرية المؤامرة. ومن رموز هذه الموجة القادمة من الغرب تجد نموذجان لعالمان كان لهما تأثير واضح ومميز في الغرب وهما (فرويد وماركس). ويُتهم هذان العالمان بأنهما يهوديان! فبالنسبة لماركس وهو القائل (الدين أفيون الشعوب) ينفي عن نفسه صفة التدين فضلاً عن يهوديته, لكن يبقى فرويد وهو الشخص الأكثر جدلاً لاسيما وأن أسمه مرتبط بنظريته وعلاقتها بالجنس. من هنا لابد أن نطرح هذا السؤال والذي يبدو غريباً بعض الشيء! هل كان فرويد يهودياً؟

قد تصيبك الدهشة وأنت تقرأ آخر كتاب لفرويد (موسى والتوحيد) والذي نشر بعد وفاته, حيث يقوم فرويد بنقد شديد للدين اليهودي! وكيفية نشوئه, وعلاقته بموسى, وعلاقته بالأديان السابقه له, وكيفية بقائه هذه السنين الطويلة, بل ويتهم بني إسرائيل كشعب بأنهم الذين قاموا بقتل نبيهم موسى!

أن فرويد يعترف بضعف الأدلة التي تؤيد نظريته لكنه يقول بنفس الوقت أن هناك دلائل كثيرة تشير لذلك لو طبقنا منهج نظرية التحليل النفسي على التاريخ اليهودي وعلى تراثه وأدبياته.

إن أجرأ نظرية في تفسير الدين ونشؤ التوحيد عند الأقوام السامية تبدأ باتهام بني إسرائيل بمصادرة هوية (موسى) المصرية لحساب بني إسرائيل, حيث يبدأ الكاتب بتحليل كلمة (موسى) وإرجاعها لجذرها الأصلي والتي تعني (طفل) في اللغة المصرية القديمة وليست لها علاقة باللغة العبرية؟ وانطلاقاً من هذه النقطة يبدأ الكاتب بربط فكرة التوحيد المجردة التي تعني وصول حاملها لدرجة رفيعة من ا لرقي الفكري ويعني هنا (موسى) بما أتى به الفرعون المصري (أخناتون) من دين التوحيد ونبذ عبادة المصريين لأله الشمس (آمون رع) إلى الإله (آتون) بمقاربة تاريخية تستحق التأمل بعد أن محى هذا الفرعون جميع آثار العبادة الوثنية وصولاً لنقل عاصمة المصريين إلى (أخت آتون) بعد أن كانت (طيبة). من هنا يبدأ موسى بالاتصال بالقبائل السامية التي تقطن قرب البحر الأحمر وعرض عليهم ديانة التوحيد لإله عظيم مسيطر على كل الكون أزلي ليست له بداية ولا نهاية في غاية التجريد, والتي قبلوها لكنهم لم يتحملوا فروض تلك الشريعة الجديدة والتي كانت أقسى من شريعة أخناتون حسب الكاتب.

يبدأ فرويد بتطبيق نظريته الشهيرة والمثيرة للجدل بتفسير نشوء الدين والأخلاق والقانون والتي عرضها في كتابه القديم (الطوطم والحرام), حيث يستفيد من نظرية دارون معترفاً بذلك من سلوك الجماعات الإنسانية البدائية والقريبة من سلوك الحيوانات والتي تحضى برعاية الأب الذي يسيطر على المجموعة بنسائها جميعاً مستفرداً بهن دون أبنائه الذين بدأوا يكبرون ويزاحمونه عليهن, حينها قرروا التخلص منه بقتله وتقاسم نساء المجموعة بالاتفاق بينهم بالحفاظ على حصة الطرف الآخر حيث من هنا بدأ القانون ومن هنا بدأ الشعور الأخلاقي باحترام النفس وذلك باحترام حق الآخر والحفاظ عليه! لكن سطوة الأب مازالت سارية في نفوسهم لعظمته وحسدهم إياه بما يحمل من رهبة في نفوسهم, ومن خلال الشعور بالندم على الفعلة الشنيعة التي فعلوها, قرروا تبجيل هذا الأب المقتول بحيوان اختاروه يكون رمزاً يحرم عليهم مسه وصيده ليتحول إلى معبود مقدس لتبدأ الديانة (الطوطمية) وتتحول نساء القبيلة إلى شيء مقدس لا يمكن المساس به من رجالها لتبدأ عادة التحريم والتي ارتبطت بنشوء الدين لتتحول لظاهرة مقدسة، ويرتبط المقدس بالمدنس ارتباطا وثيقاً لا يمكن فصله ثقافياً أو تاريخياً. لكن الأمر لم ينتهي عند هذا الحد فسطوة الأب واستحواذه على نساء العشيرة مازالت ماثله في مكبوت الوعي الجمعي لتلك القبائل! وعلى هذا الأساس تقوم المجموعة بجلب الحيوان الرمز (الطوطم) وقتله باجتماع كبير وتوزيع لحمه بين الجميع والرقص حوله لتتمثل عملية الإطعام حالة رمزية يقوم بها الأبناء لإشباع حالة نفسية بالاستحواذ على الدور الأبوي من جهة, وعدم تكرار سطوته من جهة ثانية! حيث أن هذه العادة تطورت لتتحول إلى طقس من طقوس المسيحية في تناول الخبز المقدس.

هذا مختصر نظرية فرويد في نشوء الدين والتي ترسم الملامح الأولى لها دور موسى في جذب هذا الشعب البسيط وجعله يعبد إلهاً واحداً رحيماً أزلياً مسيطراً على كل هذا الكون وأنهم شعب يستحق هذا الإله حيث أعاد لهم الثقة بأنفسهم وهم فلاحون بسطاء وسط بلاد ذات حضارة عريقة. لكنهم على كل حال لم يتحملوا هذا الفيض الهائل من المثالية في التجريد وأتعبتهم شريعة موسى فقرروا قتله, وقتلوه بالفعل كما يقول فرويد مستنداً على بعض الدلائل التاريخية. لكن شعورهم بالندم على فعلتهم الشنيعة جعلهم يقومون بالتعويض عن ذلك بإعادة دين موسى بعد ما يقارب المائة عام, لاسيما وأن بعض أحفاد أصحاب موسى المقربين مازا لوا على قيد الحياة وهم المحافظون على الوصايا التي جاء بها موسى لكن هذه المرة مع إله جديد ليس له علاقة بإله موسى!

يقول فرويد أن الإله الجديد والذي يعبده بني إسرائيل حيث كان اسمه مخفياً طيلة فترات طويله هو ليس نفس الإله الذي جاء به موسى؟ فـ (يهوه) هو إله شديد ليست عنده رحمة اختار شعب بني إسرائيل من دون الشعوب ليكونوا مختارين ومميزين بين باقي الشعوب ليمنحهم طاقة إضافية للبقاء طيلة هذه السنين رغم ما تعرضوا له من حملة إبادة. إن (يهوه) هو إله محلي كما يقول فرويد عُمم ليصبح إله بني إسرائيل ويستمد صفاته من (بعل) أحد إلهة الفينيقين و (يهوه) هو إله البراكين الذي ساد بعد أن تعرضت منطقة شرق البحر المتوسط لبراكين مميتة وتنهي سيادة الآلهة الأنثوية والتي كانت مسيطرة آن ذاك, حيث احتاج البشر لإله ذكر قوي يهيمن على قوى الطبيعة ويخضعها بإرادته وكان (سيوز) عند اليونان و (يهوه) عند بني إسرائيل. ولم يعرفه المصريون لخلو مصر من البراكين، وهو إله البراكين فمن أين أتى به بني إسرائيل كما يقول فرويد إن لم يكن غير الإله الذي جاء به بني إسرائيل من الفينقين.

إن كتاب موسى والتوحيد الذي ترجمه جورج طرابلشي لهو كتاب جدير بالقراءة رغم قيامه على فرضيات سيكلوجية ليس لها تطبيقات غير التحليل النفسي لأفراد أصيبوا بأمراض العصاب حيث قام فرويد بتطبيق نظريته ومحاولة علاجهم. وهي لظاهرة إن لم نقل فريدة فهي جريئة بكل معنى الكلمة بتطبيقها على المجتمع وعلى التاريخ لإيمانه بأن المجتمع له شخصية وله لاوعي وله ذاكرة تنبض وتحمل في طياتها الذكريات والرضات التي تستقر في اللاشعور كما يعبر عنها فرويد نفسياً حيث تؤثر في سلوكه وفي صفاته وحتى في بقائه أو أحلامه وأهدافه. وهنا اتهم فرويد بلاساميته رغم طرده من فينا من قبل الألمان ليهوديته إلى بريطانيا حيث استطاع أن يكتب كتابه بأجواء أكثر حرية كما يدعي, ورغم أن الكتاب نشر بعد وفاته بسنة تقريباً.