Monday, November 13, 2006

الطريق إلي المدرسة ..

إهداء: إلي الصديق علاء صاحب مدونة خريف البطريرك .. وإيماتيور صاحب مدونة بلاسيبوس
...... وكل من يتذكر مدرسة العباسية الثانوية العسكرية بنين بالأسكندرية


"لو أعرف للفراق موطنا، لسعيت إليه .. وفرقته."

............ بعد سبع وثلاثين دورة من دورات الأفلاك


ريحانة من السفر الأول

كان فعل اليقظة لديه يشبه إنهيارا تاما. فهو كائن ليلي منذ تعلم آدم الأسماء كلها. وكثيرا ما تفوق بجدارة علي ألد أعدائه: ضوء الصباح الذي يخترق الزجاج المعشق الملون لشباك غرفته ، وصوت العصافير التي عششت في ثنايا جدران "المنور" الخلفي للبيت القديم والمغطي تماما بنباتات لبلابية شديدة الخضرة والعنف. لذلك أقسم أنه يوما ما ، سوف يصنع غذاءا شهيا من بيض العصافير الأرقط المتناهي في الصغر ... ـ عشرون بيضة تفي بالغرض ـ
ومن المستحيل أن يكون إفطارا ، فهو يكره وجبة الأفطار إكراما لماركس

"يا بني إصحي علشان تروح المدرسة"

ملتقي خاطف

بعيون نصف مغلقة تبدأ رحلته الطقسية بين الحمام والمطبخ لتحضير النسكافيه ماركة نستله ـ حيث أن ماركة مصر كافييه محرم إستخدامها دوليا وشرعيا ـ وهو مادعا أخيه الأصغر للتشنيع عليه بأنه حالة وسواس قهري كلاسيكية. صوت الراديو القديم في حجرة المعيشة يتسلل من بعيد إلي أذنيه ـ علي إستحياء ـ
- فونتا ستيكا فون فون تا ستيكا .. برنامج صنع الفابريكة
كان يعلم تماما صوت إجلال زكي .. ويفضله
- ثم صوت شادية ..
الشمس طلعت من بعيد
جايه ومعاها يوم جديد
يجعل نهارنا نهار سعيد

لم يعلم لماذا هذا الأصرار علي أن يكون الصباح منعشا والنهار سعيدا .. ودائما ما كان يتذكر المشهد الكوميدي من الفيلم القديم حينما يخرج "حسن فايق" وهو يدعو الله: يارب إجعل صباحنا لبن حليب...وبعد دقيقة يصطدم ببائع الزبادي ويغرق في بضاعته، ثم ينظر إلي السماء ويقول: أنا قلت لك لبن حليب مش لبن زبادي

"في صباح كهذا .. ماذا ستفعل ؟"

وصل في فصل

يفتح باب البيت الكبير علي إتساع الميدان الفائق الإستدارة لدرجة الكمال، تتوسطه نافورة جافة لاتعمل أبدا، ومن خلفها يبدو سور النادي كسد أبيض يفصل بين الرصيف العريض ومساحة خضراء ممتدة، وعلي يمين واجهة البيت ، شجرتان تتهامسان فيما بينهما عن أسرار كثيرة لم يعرف عنها أي شىء.فكر كثيرا أن يسمي الميدان الهاديء بإسمه .. بشرط هدم السقوف للفيلات القديمة المجاورة، لتخفيف العبء علي الجدران


وصل في وصل

يترك وراءه الميدان النائم والخالي من الدكاكين إلا محل الزهور "فيوليت"وصاحبه القبطي ذو الوجه الهادىء والذي يستمع الي تراتيل الآحاد طوال الأسبوع.
- صباح الخير ياعم لطف الله
- صباح الخير يا دكتور
- ياعم لطف الله أنا في أولي ثانوي
- بس والله شكلك دكتور .. صباح الورد
- صباح زهرة الأوركيد السوداء .. صباحك فل.
يعبر الطريق الاسفلتي الواسع شديد السواد وخطوطه البيضاء البارزة ، كوجه أفريقي خرج لتوه من طقس ديني. أشجار الصبار اليابسة تحف الطريق علي الجانبين، وشمس الثامنة صباحا .. بعيدة، والمئذنة عالية ومطمئنة


".. والله، من الممكن أن يصبح هذا الصباح جميلا"

لن أحاول إكتشاف طرق جانبية، وسأبدأ الصعود من نقطة البداية، القنصلية الصينية كتنين رابض يحمل فوق رأسه طبق الساتلايت الدائري الهائل. لن أحرم نفسي من المشي في ثقة.. الشمس ضاحكة كفستان أنثي، وثمة موسيقي تتردد في أذني بعدما سمعت صوت الشيخ البهتيمي صاحب الأسرار وهو يقرأ سورة الكهف قبل أن أغادر المنزل.أخترق الشارع الممتد علي إتساع النظر، وأري فيلا لورانس داريل تقرأ في صمت رباعيات الاسكندرية، وتصنع أشجارها الكثيفة كورس ذو طابع يوناني تراجيدي

تجلي البنت في أخر السطر

لم أكن أضمد الصباح بالبنت صاحبة الشعر البني المسترسل والعيون الخضراء، والمطلة من الشرفة الملونة .. وهي تصافح عيني وترسل قبلة مختلسة قبل أن تلحق باص المدرسة. كانت تعلم أنني أخبأ الحكايا الملونة في جيوبي بينما أرد التحية علي الإنتظار. غالبا ـ بعد سنوات كثيرة ـ سأتذكر أنني خدشت أبيض الحمام ، بدكنة تخصني



وصل في وصل في وصل

الشارع، خليط طازج من هرمونات الأنوثة والذكورة. أعبر بائع الصحف والمجلات ذو الوجه الصامت وهو يومىء برأسه دلالة علي عثوره علي ما طلبت من كتب، تاركا كل الهواء محايدا بين صمته وعبوري. علي الجانب الآخر، أري دكان الآيس كريم الشهير، والذي أطلقت عليه لافوازييه الجيلاتي وملك الكيمياء العيارية نظرا لخلطته السحرية وطبقة "الكريمة" الفردوسية التي تغطي بحور المانجو وسماء الفانيليا. سوف يكون خلاصي وجائزتي في طريق العودة علي عناء يوم دراسي ممل .. الآيس كريم هو صلاتي اليومية.
علي اليمين يرقد المبني شديد البياض للمستشفي القبطي العتيق، وفي الطريق راهبات يرتدين الأسود والأبيض كصراع الخير والشر. ألقي عليهم تحية الصباح بالفرنسية وأتلقي إبتسامة ودودة، وحمرة خجل وردية .. ولا مكان للشيطان في رأسي ... أعتقد


الوصول .. ولوثة الحنين

البوابة الكبيرة، وخلفها غدير السمك الملون، بواب المدرسة بلكنته النوبية، عربات المدرسين، حجرة الموسيقي الصالحة دوما للهروب الجماعي، مصدر الضوء الخفي ، اللحظة المواتية ، اسم اليوم المفقود ، الزمن القصي ، وشجر الكافور العتيق ورائحته العسلية
......... ....... ....... ............
....... ....... ............
....... ....... ......

عودة

أعبر البوابة الإلكترونية بعدما أمرر كارت البيانات الممغنط، وأنا أحاول إسكات "الملاح الفضائي" ـ ساتيلايت نيفيجاتور ـ وهو يصرخ بصوت معدني مزعج: إتجه يمينا .. إتجه يمينا.
يصمت تماما بضغطة من إصبعي وأنا أشيعه بشتيمة أمريكية مفضلة لدي
Shut the F*** up.

يستقبلني وجه فريناند رجل الأمن بإبتسامة ناصعة البياض علي وجه بلون الكاكاو ولكنة موسيقية
-Good morning doctor
-Hope you've a wonderful morning, sir

أرد تحيته بإبتسامة خافتة، وأتمتم بعبارات غير مفهومة له

يارب .. إجعل صباحنا لبن حليب.