Wednesday, June 14, 2006

إبن عربي بين النظر والكشف، وما وراء النفس



حكي الشيخ الأكبر إبن عربي فقال:


دخلت يوماً بقرطبةَ على قاضيها أبى الوليد بن رشد ، وكان يرغب فى لقائى لما سمع وبلغه ما فتح الله به علىَّ فى خلوتى ، فكان يُظهر التعجُّبَ مما سمع . فبعثنى والدى إليه فى حاجةٍ ، قصداً منه حتى يجتمع بى ، فإنَّه كان من أصدقائه ، وأنا (آنذاك) صبىٌّ ما بقل وجهى ولا طرَّ شاربى . فعندما دخلت عليه ، قام من مكانه إلىَّ محبَّةً وإعظاماً ، فعانقنى وقال لى : نعم ! قلت له : نعم ! فزاد فرحه بى لفهمى عنه ، ثم استشعرتُ بما أفرحه ، فقلت : لا ! فانقبض وتغير لونه وشك فيما عنده . وقال لى : كيف وجدتم الأمرَ فى الكشف والفيض الإلهى ، هل هو ما أعطاه لنا النظر ؟ قلت : نعم ولا ، وبين نعم ولا تطيرُ الأرواحُ من موادِّها والأعناق من أجسادها ! فاصفرَّ لونُه .

لقد كان رد الشيخ الأكبر إبن عربي يقوم علي العلاقة الجدلية بين نعم ولا، ومنطق المرآة، وهو منطق أونطولوجيا الخيال، منطق يحررنا من هيمنة المنطق الصوري والأونطولوجية التابعة له، طالما أن المنطق المرآوي ينطلق من رؤية هيراقليطية-سفسطائية تضع الصيرورة مبدأَ لتصور العالم، مما يجعل الجمع بين المتضادات أمراً لا يثير أي حرج لدى القائل به.


فأنت تستطيع الجزم بأن الوجه الذي تراه في المرآة هو وجهك، وبأنه ليس وجهك في آنٍ واحد.
تلك هي جدلية الإثبات والنفي التي تجعل فكر إبن عربي أقرب مايكون لديريدا وهيدجر ومفكري مابعد الحداثة،

"وقد قال الشيخ الاكبر " الخلاف حق حيث كان .

أما فيلسوف قرطبة وجوهرة الفلسفة الإسلامية إبن رشد فقد كانت فلسفته تقوم على إخضاع الوجود لمقتضيات العقل وتحويله إلى علم وأسس، الأمر الذي يقتضي تقسيم الوجود إلى مقولات ومبادئ وجواهر وأعراض، تمهيداً للسيطرة عليه وإخضاعه.

وهذا ما يفسر الإجابة المترددة لابن عربي بين ’نعم ولا‘ على سؤال ابن رشد. ذلك أنه إن لم يكن الشيخ الأكبر ينكر حق العقل في معرفة الوجود ولكنه يرفض إدعاءة بإحتكار معرفة الوجود .

وهو ماحدث مع مفكري مابعد الحداثة، فلم يعد للعقل السلطة المطلقة سواء كانت معرقية أو أخلاقية أو إنسانية، فالعلم الظني والتجريبي ليس هو الوجه الوحيد للحقيقة، والماهية ثابتة في قلب الموجودات. وعلي ذلك يمكن للمعرفة أن تكون موضوعية، و يصبح الخير كم مطلق.

وهذا عين وأساس مابعد الحداثة، فالنظرية تنادي بإعادة النظر في الوسائل المعرفية ـ كالعلم العرفاني وقدرات العقل الكمي والبيسيكوترونيك والحدس، وهو ماسوف نعرضه بالتفصيل معمليا وتجريبيا ـ وهي التي يرفضها العقل كالاسطورة والخيال وظواهر ماوراء النفس

كذلك دعت مابعد الحداثة إلي إلغاء الإزدواجية وإثنية المنهج الاستدلالي كإزدواجية الذات والأعراض، والمبدأ والأثر.

وهذا مانجح فيه الشيخ الأكبر إبن عربي في مقلبلته مع إبن رشد، فلم ينكر طريق النظر، ولكنه عارض أي خلط أو توحيد بين النظر والكشف.

ورغم التشابه الشديد بين إبن عربي وفكر مابعد الحداثة، يبقي شيخنا الاكبر متفردا ـ فهو المؤمن بالحقيقة الواحدة، برغم إتساع رؤيته وسعه قلبه وعقله لإحتواء كل الصور وحدانية أو ربوبية أو آلوهيه.


إجابة نعم ولا، هي إعتراف بإمكان وصعوبة الجمع بين الفلسفة والتصوف، بين النظر والكشف، بين الإتصال والإنفصال.

وهاهو إبن عربي يجمع بين العيان والبرهان، ويقف في برزخ بينهما بمقام الحيرة، التي كلما إزدادت حدتها، إزداد كمال الإنسان.



المراجع:

--------
كتاب التجلِّيات، ضمن رسائل ابن عربي،
- الفتوحات المكية لابن عربي-
رسالة محمد مصباح "ابن عربي"-
مابعد الحداثة د/ ماري كلاجز -
ضد التفسير ريفيو سوزان سونتاج -
مؤلفات هيدجر
- كارلوس كاستانيدا-
- هكذا تكلم زرادشت نيتشه