Tuesday, August 01, 2006

ثقافة جلد الذات .. صناعة مصرية




If we pray with sincerity, there is no such thing as an unanswered prayer.

Answered Prayers
- Truman Capote -


هل ثقافة جلد الذات مازوكية شعبية ؟

يعرّف الخوف أنطولوجيا بأنه نزعة غريزية قطيعية، هي استجابة طبيعية للنزعة الحيوانية للسيطرة. إذن يوجد الخوف طبيعياً حيث توجد إرادة السيطرة طبيعياً، وهو ثمرة علاقة الأقوى بالأضعف، في عالم الغاب، وليس استمرار هاتين النزعتين الحيوانيتين إلا نتاج ما ترسب في اللاوعي الجمعي للبشر، قبل أن ينفصلوا عن الطبيعة ويتحسسوا ذاتهم ككائنات إنسانية، الأمر الذي من شأنه أن يفضي بنا إلى الاستنباط القائل بالاضمحلال التدرجي لإرادة السيطرة ورغبة الخضوع كلما تمكن الإنسان من السيطرة على الطبيعة، وعمّق منجزاته المدنية والحضارية.

وعلى المستوى الفردي (العاطفي والشعوري) فإنه بمقدار ما تزداد مساحة الخوف في الداخل الإنساني، بمقدار ما تضيق مساحة الشعور بالحب والشجاعة والإحساس بالكرامة والتوادد والرحمة، حيث يلعب الموت دوراً محورياً، إذ يتم من خلاله الفرار من التساوي أمامه إلى تمايز يؤمن البطولة والشهادة والخلود، وهنا يتدخل الشأن الإلهي، لتأسيس قانونيته القائمة على الأمر والطاعة.

أما على المستوى الاجتماعي - السياسي، فتحدد ثقافة جلد الذات وفق معيار درجة ديموقراطية الحياة الاجتماعية والسياسية، أو الهيمنة الشمولية للدولة البوليسية أو الهيئة الدينية أو السلطة الثقافية أو النسق الجماعي الدوجمائي.

وبمقارنة بسيطة بين بنية الفرد في المجتمعات الغربية، وشبيهه في الشرق العربي السعيد، نري ان الفرد في الغرب يتميز بالقوة و الجرأة والثقة بالنفس ، وهو دائم الشك والتساؤل والنقد.
أما الفرد المصري فهو يتميز بالقناعة وراحة البال وهو مطلق اليقين والتلقين والامتثال.

وعندما نتسائل عن العوامل والأسباب التي أدت إلى هذه القوة للفرد الغربي، نجدها في حقيقة "أن بلاده كفت عن أن تكون بلاد الخوف". بينما الفرد في بلادنا التعيسة منذ سنواته الأولى وربما منذ شهوره الأولى، تتحكم فيه أشكال عديدة من الخوف، الخوف من العائلة، من المعتقد الإيماني، من التقليد، من المجتمع، من المدرسة، وأخيراً من السلطة الاستبدادية ، ففي بلاد الخوف، سرير "بروكست" ينتظر كل فرد، ويتمدد فوقه ولكن لتقطع خصيتاه فيغدو ضحية وديعة مذعنة، حياتها فرار، وموتها خلاص.

بنية الخوف
----------
يحدد جورج أورويل في روايته "1984" عناصر بنية ثقافة الخوف، بأنها البنية المؤسسة على التفكير المزدوج. فما هي هذه العناصر؟ إنها: أن تعرف وأن لا تعرف، أن تعي حقيقة صادقة كل الصدق وترى بدلا منها كذبات موضوعة بعناية، وأن يكون لديك في اللحظة نفسها وجهتا نظر متباينتين وأنت تعتقد، وتؤمن، بهما كليهما. وأن تستخدم المنطق ضد المنطق، وأن تنكر الفناء بينما تدعيه، وأن تنسى ما تدعو الضرورة أن تنساه ثم تستعيده إلى الذاكرة في اللحظة التي تحتاج فيها إليه ثم تعود فتنساه مرة ثانية. والأنكى من ذلك كله، أن تطبق الطريقة نفسها في حالة الإيجاب والسلب.


قاعدة التفكير المزدوج تتيح لك الهروب من تفكيرك، وتنقذك من ضغط الإكراه والخوف من الحرية، عندما تتبنى وجهتي نظر متباينتين وتؤمن فيهما كليهما، فالغرب مرحَّب به كسلعة، فإذا قلت لابد، منطقياً، معرفياً، تاريخياً، من امتلاك مقومات العقل الذي أنتج السلعة انقض عليك طغيان عقل الغالبية الناطقة باسم التاريخ والمقابر وثوابت الأمة والخطر الداهم من الإختراق الثقافي علي يد أعداء الاسلام.

مع كم هائل من التحذيرات والتنبيهات علي لسان مديري المقدس من شيوخ النفط إلى شيوخ الفضائيات، إلى شيوخ الإعلام الرسمي.. فلابد من نسيان العقل واللهج باسم السلفية،

إن التقدم العلمي والتقني والثورة المعلوماتية ما كان لها أن تحقق هذه الإنجازات الباهرة، لولا الاعتراف بالفرد ذاتاً حقوقية مستقلة غائية فاعلة عاقلة، مالكة لحياتها وبدنها وذهنها، وهو ما يتوج المبادرة الحرة، ويتوج مفهوم "الاعتراض والمغايرة".


أسطورة الخطر والإستهداف
--------------------
إن العقل المصري حقل خصب لتوقع الخطر والإستهداف والغزو، حيث المجتمع يعاني من عصاب قهري وسواسي، حين يتبادل المجتمع والسلطة الحذر من مجهول آت غير محدد، ما دام المجتمع لا يحتكم إلى منظومة حقوقية قانونية تنظم علاقته بالنظام، الذي يتميز بأن جوهره غياب القوانين.

وهنا تتبادل السلطة لعبة العدو.
فالسلطة ترهب الشعب بالديون المستحقة التي تعجز الدولة عن دفعها ـ نظريا ـ كما تتوعد الشعب بالبديل الأكثر فاشية وضبابية وقسوة كالأخوان المسلمين وتنظيمهم الفاشى. وتتبادل الكرة لتأتي في ملعب الاسلامويين فيرهبون الخلق من حرب صليبية وغزو غربي ومؤامرة كونية علي مصر المحطمة إقتصاديا وسياسيا وثقافيا، وتصبح مؤخرة روبي أشد وطئة عليهم من أحوال الخلق، وتمسي كلمات القمني وفرج فودة وأبوزيد خطرا يهدد مشروع خلافتهم الرجعي الاستبدادي العنصري، وعار لايمحوه إلا الدم المراق. فتغييب وعي الناس هو مهمتهم الاساسية، والدخول في معارك وهمية هي لعبتهم، وجعل مسلمي الشيشان وبلاد الزنجبيل أهم من أقباط مصر وسكان العشوائيات ومواطني دولة الصعيد .
وكأن معارضتهم وجدت لتؤسس للسلطة العسكرية القهرية.

في هذه العلاقة التبادلية يصبح الخوف هو الفاعل، فإذا كنت قادراً على التخويف فكل شيء ممكن، وإن كنت في دائرة المفعولية فكل شيء مستحيل، حتى تصل درجة المفعولية إلى درجة التعدي إلى مفعول له ثان، أو مفعول مطلق! والمستقبل يغدو قنبلة موقوتة، لكنها تطلق دقاتها في كل لحظة .

وماجعل حسن نصر الله نموذج للمخلص إلا الخوف من المستقبل، وغياب الوعي، وجلد الذات، والغرق في طيات الخطاب الانتحاري ... هروب من العجز واللاجدوى إلى السلطة المجهولة المعالم، سواء أكانت هذه السلطة ثيوقراطية سلفية أم أوتوقراطية طغيانية محدثة كناصر ونموذجه.

جلد الذات والخطاب الانتحاري .. كأسلوب دفاعي
-----------------------------------
ثقافة جلد الذات هي المسؤولة عن توسّل ضحاياها بالاساليب الدفاعية كرد فعل على اليأس من الانعتاق من الخوف، التي يعزل الانسان عن محيطه عبر الانكفاء على الذات والفرار أمام التحديات الراهنة والمستقبلية، والنكوص أي الارتداد الى سلوكيات تعود خصائصها الى مراحل عمرية سابقة، أي التصرف ليس على أساس العمر والنضج بل على أساس الموقف والوضع النفسي، هذا النكوص الذي يأخذ أشكالاً عدة مثل: التمسك بالتقاليد، والعودة الى الماضي، والامتثال للعرف السائد كقاعدة للسلوك والمعيار للنظر، والاحتماء بالأمجاد والمآثر الماضية، حيث يتم إعادة بناء صورة الماضي كيما تكون مصدر إلهاء في مقابل العجز عن العيش في الحاضر فضلاً عن تغييره، والميل الشديد الى تحميل الآخرين الفشل، أي التنصّل من المسؤولية.

ولابد أن نلتفت إلي العوامل النفسية والذهنية التي تنتاب الإنسان المقهور حيث تسوقه عقده وانفعالاته الى البحث "عن مخطئ يحمِّله وزر العدوانية المتراكمة داخلياً، ويغدو الاعتداء مشروعاً، لا يشكل عدواناً على قيمة إنسانية، بل على مصدر الشر. ويتطور الاعتداء الى التماهي الذي يأخذ أشكالاً عدة: التماهي بأحكام المتسلط، أي توجيه عدوان المتسلط الى نفسه وليس للمتسلط في عملية جلد للذات والحط من شأنها والاستسلام لشعور الهزيمة في الداخل، والتماهي بعداون المتسلط، حيث تتقمص الضحيَّة دور الجلاد، فتفرغ ما وقع عليها من مظالم على من هم أضعف منها، والأخطر من ذلك هو التماهي بقيم المتسلط وأسلوبه الحياتي، حيث يتم إمتصاص قيم الظالم والرغبة عند الانسان المقهور للعيش في عالم المتسلط واقتفاء سيرته في الحياة والسلوك و التفكير.

إن انتاج الخوف يخدم إستراتجية التجديد الذاتي المجتمعي الثابت. وبمعنى ما وعليه، فإن ثقافة الخوف هي رد فعل انعكاسي لعجز النخبة السياسية لقيادة المجتمع.

خطورة ثقافة الخوف تكمن في قدرة المجتمع الفريدة والبارعة على إنتاجها بصورة دائمة وتلقائية بعد أن أفرغت السلطة كل سمومها في جسده، بحيث يكون أعضاء المجتمع متطوعين لتعميم ثقافة الخوف ووكلاء غير رسميين عن السلطة الجائرة في ترويجها.


خاتمة
-----
لابد من إسقاط الاصنام الذهنية وأشكال السلطة كما غرستها ثقافة الخوف وإعادة إنسانية الانسان الحر، وهو تدبير تربوي يعضده تدبير قانوني آخر يتأسس على شياع مفهوم المواطنة، التي تحقق مبدأ المساواة بين الافراد وترسم للجميع خطاً حقوقياً متساوياً بصرف النظر عن تحدّراتهم الاثنية والدينية والسياسية. ولا شك أن إنغراس فكرة المواطنة يؤدي تدريجياً الى زوال شبح السلطة كما تجسّدت في شخص الحاكم ويحلّ مكانه مبدأ سيادة القانون، فلا سلطان على الجميع الا القانون.

كما علينا أن نتوقف عن إنتاج الخوف والاغراق في جلد الذات والخطاب الانتحاري عن طريق تعلم أدبيات الحوار هدم فضاء المقدس ، التوقف عن إستحضارالماضي القريب أو البعيد ـ لا ناصر ولا صلاح الدين ـ وخلق وعي جمعي لهدم فكرة المخلص والقائد وإرساءوترسيخ فلسفة حرية الفرد .. بدلا من شعارات النصر الكلامية، ومظاهرات تطالب بكل شىء ولا شىء، وإصلاح مصر أولا .. قبل النظر خارج دائرة الذات.